﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
فهذه قصيدة كتبتها بمداد أشجاني ، وسطرتُ حروفها بدموع أحزاني ، وجعلتُ منطقها على لسان أبٍ فلسطيني بائسٍ ، يرْثي ابنته الصغيرة التي قُتِلتْ يوم زِفَافِها ، وذُبِحتْ فرْحتُها وهي في ربيع عمرها ، أمام عين أبيها وهو واجم القلب محسور ، لم يملك إلا أن يقول وصدره بالحزن مغمور :
إنْ جاء فرحٌ أو ألَمَّ سرور *** فالدمع باقٍ في العيون بحور
ياعين هاتِ الدمع بل هاتِ الدِّما *** هذا دواء القلب وهو كسير
نيران جرحِ لم تزل بين الحشا *** تغلي مراجلها بها وتفور
يا لوعة النفس التي قد جُرِّعتْ *** كأسَ العذاب وشانها التكدير
دعْ عنك لومي في مصابي لائمي *** ما كلُّ مكلوم الضمير يثور
واسمع مصيباتٍ حللْن بساحتي *** كاد الفؤاد لِهَوْلِهِنَّ يطير
يا ناعيَ الإسلام أقبلْ باكيا *** قد حان وقت النعْي والتَّغْبِير
زفراتُ حسْرة أمتي أمستْ لها *** نَفْسُ الرحيم من البكاء تخور
ناحتْ على الأيْكُ الحمائم بعدما *** كانت لها فوق الغصون هدير
وتحجَّبتْ شمس الحياة بنورها *** واستوحشتْ بعد الأمان صدور
فاسأل دياراً بالدماء تخضَّبتْ *** جدرانها وظلامُها منشور
ما حالها .. عمَّ الأنينُ بِدُورِها *** والفرح فيها ميِّتٌ مقْبور
تلك المساكن إنْ تَسَلْ عن شأنها *** تُخْبِرْك أحجارٌ لها وصخور
في أرضها سالتْ مدامعُ أهلها *** وصُراخُ صوتِ نسائها مَهْدور
أوَمَا ترى ثكْلىَ هناك وقلْبُها *** مِنْ فرْطِ كثرة حزنها مفطور
تلك المآسي قد ذَهَبْنَ بفرحتي *** فنهارُ أملي في الحياة قصير
*** *** *** *** *** ***
دارتْ بأرض القدس كاساتُ الرَّدَىَ *** ليلا .. وغاراتُ الزمان تُغيرُ
في غزَّةِ الأوطان كان مُصَابُنَا *** جَرَّاءَ قَصْفٍ شأنُهُ التدميرُ
عصفتْ رياح القهر غدْراً بابْنتي *** في يوم عُرْسٍ والشموعُ تدور
كانت كَبَدْرٍ أشْرقتْ أنواره *** ليلَ الزِّفافِ وقد علاها النور
فالثَّغْرُ منها باسمٌ مُتَلأْلأٌِ *** والوجه منها مُشرقٌُ ونضير
والكون يضحك والسماء مُضيئةٌ *** والفرح في مُقَلِ العيون غزير
لكنَّ أفراح القلوب تبدَّلتْ *** حُزْناً .. وأظلم ربْعُنا والدُّور
وتكدَّرتْ بعد السرور نفوسُنا *** وتمزَّقتْ بعد الوصال ستور
لَمَّا أصاب صغيرتي سهمُ العِدَا *** وتغَيَّبتْ شمسٌ بها وبُدُور
*** *** *** *** *** ***
لهفي على الجسد الْمُضَرَّجِ بالدِّما *** بين الحجارة قد علاه زفير
نادى بصوتٍ خافتٍ كادتْ له *** نفْسي تذوب بلوعة وتمور
فَهَوَيْتُ نحو الصوت ألتمس النِّدا *** والطرفُ مِنْ هوْل المصاب حسير
فإذا دماء صغيرتي خَضَبَتْ يداً *** كانتْ تُداعبُني بها وتُشير
قد غيَّب القصْفُ الرهيب جمالها *** فالنحرُ منها نازفٌ مَنْحور
فَطَفِقْتُ أصرخ مِلْءَ صوتي : ويْلتي *** هل من مُغيثٍ فالدماء كثير
هل من طبيبٍ مُنْقِذي من نَكْبَتي *** عصفورُ قلبي مِنْ يدي سَيَطير
*** *** *** *** *** ***
فإذا الطبيب وقد أتَى مُتلهِّفاً *** نحو ابنتي قد ساءه التأخير
فأصاب منها مدمعاً فاضت له *** عينُ الطبيب وشَانَهُ التغيير
فأشار من غَرْبِ العيون إشارةً *** : فاتَ الأوانُ وخاننا التقدير
عَجَزَ الدواء عن الشفاء وما لنا *** فيما قضاه إلِهُنا تخَيْير
إني أرى نَحْبَ الفتاة قد انْقَضَى *** وأنا بهذا عارفٌ وخبير
ثمَّ انْزوى عنا الطبيب وحُزْنُه *** لِمُصابِنا في وجهه مسطور
فَسَقَطْتُّ مُنْتَحِباً على جسد ابنتي *** أبكي وأنْعي حالنا وأثور
*** *** *** *** *** ***
فَتَنَهَّدَتْ والدمعُ دون جُفونها *** دُرٌّ على وجَناتها منثور
وتنفَّستْ للموت قائلةً وقد *** قُصِمتْ بِزفرتها هناك ظُهُور
أوَّاهُ يا أبتاهُ من جرحٍ لنا *** نِيرانُه بين الضلوع سعير
قد برَّح الألمُ العقيم بمهجتي *** وأذاب قلبي : حسرةٌ وثبور
أحلامنا قُتِلتْ بغير جريرة *** وجَوَادُ فرحتنا هناك عقير
ما ذنبُنا كيما تسيل دماؤُنا *** وكأنها بحرٌ بنا مَسْجور
أبتاه لا تزْرِفْ دموعك واصْطبر *** عمَّا قليلٍ يَنْتهي المقدور
عمَّا قليلٍ تنْقضي أحلامنا *** ويغيضُ ماء حياتنا ويغور
ما ساءني ألمي .. ولكن ساءني *** زفراتُ حُزْنك في الهواء تطير
بالله مهلا .. ما لِقَلْبي أن يرى *** منك المدامعَ في العيون تثور
إني أرى دون السحاب بشائراً *** قد أقبلتْ بين الغمام تسير
تلك الملائكُ لا تَسَلْ عن حُسْنها *** جاءتْ ركائبُها بها والحور
فكأنهم لِزِفاف روحي قد أتوا *** والحور فوقي كالبدور تدور
معهم لِتجْهيزي : ثيابٌ سندسٌ *** ولِغسْلِ دمعي : عنْبرٌ وكفور
أبتاه لا تغْفلْ زيارةَ مرقدي *** يوماً لئلاَّ يجزعَ المقبور
فأنا الوحيدة رَهْنَ قبرٍ مظلمٍ *** أمسيتُ فيه .. وخاطري مقهور
أبتاه قد حان الفراق فليْتنا *** وَافىََ بنا قبل الرحيل : نذير
*** *** *** *** *** ***
فأجبْتُها والدمع يَحْرقُ مُقْلتي *** والقلب ينزفُ والمصاب كبير
بِنْتاه يا روحي ومُقْلةَ ناظري *** وجمالَ نفْسي إنْ عَراهُ فُتور
يا زهرة البستان يا قَطْْرَ النَّدى *** يا جنةً فيكِ النجومُ تُنير
يا بُلْبُلاً غَنَّى على غُصْن الْجَوَىَ *** وشَدَا بِصوتٍ زانهُ التأثير
وَسَطَ المروج وبين ساحات الفضا *** قد راح يلهو تارةً ويطير
يا بسْمةً كانتْ على الثَّغْر الذي *** ما إنْ بدا فاحتْ هناك عُطور
قد كنتِ لي نور الحياة وشمسها *** فغدوتُ أعمى في الظلام يسير
ضحكاتُ فرحُكِ لا تزال تهزُّني *** وتُطيلُ أنَّاتِ الْجَوَىَ وتُثِير
دقَّاتُ قلبُكِ في الفؤاد طوارقٌ *** يصْدعْنَ نفسي والإلهُ خبير
تلك المحاسن في التراب تغيَّبتْ *** وجمالها في قبرها مَدْثور
بنتاهُ قد عظم المصاب وإنني *** أبداً على العهد القديم أسير
كأسُ المنيَّةِ قد أصابكِ بغْتةً *** فَشَرَبْتِ ماء الموتِ وهْو مرير
قد كان لا يحلو غيابُكٍ ساعةً *** كيف التَسَلِّي والغيابُ دهور
يا ليتني قد كنتُ قبلكِ ثاوياً *** حُفَرَ الترابِ فَيَشْتفي المصْدُور
ما طاب عيشي في الحياة صغيرتي *** مُذْ غاب بدرُ جمالكِ المستور
كبدي يسيل مرارة أبداً وإنْ *** مرَّتْ عليَّ صوارفٌ وعُصور
إنْ قيل صبراً .. قلتُ قد غربتْ له *** شمسي وغاب ضياؤها والنور
أو قيل رفْقاً .. قلتُ كيف وهذه *** أمواتُ فرْحِي ما لهنَّ نشور
فإلى اللِّقاء صغيرتي في عالمٍ *** ما فيه حُزْنٌ بل هناك سرور
في جنَّةٍ فيها الأحبَّةُ تلْتقي *** والرَّبُّ راضٍ .. والشَّرابُ طَهُور